التجمع السنوي لجماعة التبليغ في رايوند – أضخم ملتقى دعوي في باكستان

إعداد: وحدة الثقافة والفنون بمركز إندس للدراسات الباكستانية- إسلام آباد-
في مشهدٍ روحانيٍ مهيب يتكرّر كل عام، تتحوّل بلدة رايوند القريبة من لاهور إلى مدينةٍ نابضة بالإيمان، حيث يجتمع مئات الآلاف من المشاركين من باكستان ومختلف أنحاء العالم لحضور التجمع السنوي لجماعة التبليغ والدعوة– أحد أكبر التجمعات الإسلامية في العالم. هذا الحدث الذي يُعرف باسم “تبلیغی إجتماع” (Tablighi Ijtema)، أصبح منذ عقود منارةً للدعوة والإصلاح الروحي، ومركزاً رئيسياً لنشر رسالة السلم والإخلاص في سبيل الله. ولا نبالغ إذا قلنا أن الاجتماع السنوي لجماعة التبليغ في مدينة رايوند الباكستانية يشكّل أحد أضخم المشاهد الروحية في العالم الإسلامي، إذ تتجلى فيه ملامح تشبه إلى حد كبير أجواء المشاعر المقدسة في منى وعرفات خلال موسم الحج؛ من حيث ضخامة الحشود، والإقامة في الخيام، ودوام الذكر والصلوات والتكبيرات، إضافة إلى تنوع المشاركين واختلاف انتماءاتهم المذهبية والقومية، ما يمنحه طابعًا إيمانيًا فريدًا يعكس وحدة المقصد وعمق التجربة الروحية.
والتزاما بهذا النهج المتوارث، بدأت جماعة التبليغ باستقبال المشاركين في التجمع السنوي من الأمس ٦ نوفمبر ٢٠٢٥م، ويقدر عدد المشاركين هذه السنة أن يتجاوز مليون مشارك.

الخلفية التاريخية والنشأة
تعود جذور جماعة التبليغ والدعوة (Tablighi Jamaat) إلى أواخر العشرينات من القرن العشرين، حين أسّسها العالم والداعية الهندي مولانا محمد إلياس الكاندهلوي في منطقة ميوات بالهند، تحت شعار شهير أصبح أساس دعوتهم:
“أيها المسلمون، أصلحوا أنفسكم، واهتموا بإصلاح غيركم.”
بعد تقسيم شبه القارة الهندية عام 1947، انتقلت قيادة فرع باكستان إلى مدينة رايوند قرب لاهور، حيث أُنشئ المركز الرئيسي للحركة المعروف بـ رايوند مركز (Raiwind Markaz)، الذي أصبح القلب النابض لأنشطتها الدعوية والتنظيمية، ومقرّاً دائماً لانعقاد اجتماعها السنوي الشهير.
الأنشطة والأهداف الدعوية
يهدف هذا التجمع قبل كل شيء إلى إحياء الروح الإيمانية لدى المسلمين عبر التذكير والبساطة في الدعوة بعيداً عن السياسة أو الجدل.
على مدى أربعة أيام متواصلة، يمتلئ المكان بآلاف الأصوات تتلو القرآن وتستمع إلى “البيانات” – أي الخطب الدينية التي يقدمها كبار العلماء والدعاة من داخل باكستان وخارجها، ومن أبرزهم:
- مولانا عبد الوهاب (رحمه الله) – أحد أبرز رموز الجماعة في باكستان.
- مولانا سعد الكاندهلوي (من الهند) – الزعيم الروحي الحالي للحركة على مستوى العالم.
- مولانا نذر الرحمن ومولانا طارق جميـل – من أبرز الدعاة الباكستانيين الذين أثّروا في مئات الآلاف بخطبهم المؤثرة.
يتم خلال الاجتماع تشكيل جماعات دعوية صغيرة (جماعات التبليغ)، تتكوّن من 10 إلى 15 شخصاً، تنطلق بعد الحدث إلى المدن والقرى وحتى خارج البلاد للدعوة والإرشاد، وهي سِمَةٌ فريدة للحركة منذ نشأتها.
الأعداد والمساحة والتنظيم
يتوافد إلى رايوند كل عام ما بين نصف مليون إلى مليون مشارك من باكستان وآسيا الوسطى والشرق الأوسط وأوروبا، فيما تُقام المناسبة على مساحةٍ شاسعة تتضمن:
- المسجد المركزي الكبير الذي يتسع لعشرات الآلاف من المصلين.
- مرافق إقامة مؤقتة ومناطق خيام ضخمة مخصصة للضيوف الأجانب.
- بنية تحتية متكاملة تشمل خدمات المياه، الصرف، والطعام، بإشراف مباشر من متطوعين تابعين للجماعة وبالتنسيق مع الشرطة والسلطات المحلية.
وتتوزع الفعالية على مرحلتين لتخفيف الازدحام: الأولى لأقاليم البنجاب وخيبر بختونخوا، والثانية للمشاركين من السند وبلوشستان وخارج البلاد.
القيادة والتنظيم
جماعة التبليغ لا تتبع نظاماً سياسياً أو هرمياً صارماً، بل تُدار من خلال “مجلس شورى” يختار “الأمير” المسؤول عن التنسيق العام.
في باكستان، يشرف على إدارة المركز في رايوند كبار العلماء من الشورى المحلية، وتُنسق الإجراءات التنظيمية مع الدوائر الحكومية لتأمين الطرق والمرافق.
وقد اشتهر المركز سابقاً بقيادة مولانا عبد الوهاب، الذي كان يُعد رمزاً روحياً للجماعة في باكستان حتى وفاته عام 2018، ثم خلفه مجموعة من العلماء تحت إشراف شورى رايوند.
أهم السمات والملامح
- الحياد السياسي:
تُعرف جماعة التبليغ بأنها حركة دعوية لا تنخرط في السياسة ولا تهاجم الحكومات أو الجماعات الأخرى، إذ تركّز فقط على إصلاح الفرد والمجتمع من الداخل. - الانتشار العالمي:
تمتد الجماعة اليوم إلى أكثر من 150 دولة، وتُنظَّم اجتماعات مشابهة في تونغا (بنغلاديش) وبالبور (الهند) وجاكرتا (إندونيسيا)، لكن اجتماع رايوند يُعتبر الأكبر والأكثر تأثيراً. - التنظيم المذهل:
تتعاون أجهزة الأمن والنقل والنظافة لتسهيل حركة المشاركين، حيث تُخصَّص طرق خاصة للحافلات وتُوفَّر نقاط طبية ومطابخ جماعية لخدمة الحشود. - الدعاء الختامي:
يختم الاجتماع عادةً بـ دعاء جماعي مؤثر يرفعه ملايين الأيدي إلى السماء في مشهد مهيب، يذيعه التلفزيون الوطني مباشرة. - رمزية روحية ودعوية:
يُنظر إلى التجمع باعتباره رسالة سلام عالمية تذكّر بوحدة الأمة الإسلامية وتدعو إلى العودة إلى الله عبر الزهد، والخلق، والتعاون.
الموقع الجغرافي
يقع مركز رايوند على بعد نحو 30 كيلومتراً من مدينة لاهور في إقليم البنجاب، وتُغلق الطرق المؤدية إليه خلال فترة الاجتماع لتأمين حركة المشاركين وتنظيم المرور.
المجمع يضم المسجد الرئيسي، مباني إدارية وتعليمية، مناطق خيام، ومواقف ضخمة تستوعب آلاف المركبات.
الملاحظات والتحليلات الفكرية
رغم الانتشار الواسع والقبول الشعبي الكبير الذي حظيت به جماعة التبليغ، إلا أن العديد من الباحثين والمفكرين الإسلاميين يشيرون إلى عدد من الملاحظات الجوهرية على منهجها الدعوي، أبرزها:
- الاستدلال السطحي في كثير من الخطب والمواعظ، حيث يُركّز الخطباء على القصص والمواقف العاطفية دون التعمق في تفسير النصوص الشرعية أو فلسفة الأحكام.
- تغليب العاطفة على الفهم العقلي، إذ تعتمد الخطابات غالبًا على التأثير الوجداني بدلاً من التحليل الشرعي المتين أو التوجيه الفكري المتوازن.
- ضعف التأصيل العلمي لدى نسبة كبيرة من أعضائها، حيث تضم الجماعة أناسًا عاديين وحتى مشاهير الكرة ونجوم الأفلام ليست لديهم خلفية شرعية أو علمية كافية، ما يجعل خطابهم الدعوي بسيطًا لكنه محدود الأثر في الفهم العميق للإسلام.
- الابتعاد عن قضايا الفكر والسياسة، وهو ما يعتبره بعض النقّاد ميزة في حيادها، بينما يراه آخرون تقصيرًا في حمل رسالة الإسلام الشاملة التي تشمل إصلاح الفرد والمجتمع والدولة معًا.
ومع ذلك، تبقى جماعة التبليغ واحدة من أكثر الحركات الإسلامية تأثيرًا وانتشارًا في العالم، إذ تمتد شبكاتها الدعوية إلى أكثر من 150 دولة، ويُنظر إليها بوصفها مدرسة تربوية دعوية تهدف إلى إحياء الالتزام الديني بين عامة المسلمين.



