أقلام باكستانيةمقال رأي

أطفال غزة يدفعون ثمن تهوّر القسّام: عندما يغيب العقل، تحضر الكارثة.

بقلم: د. عبدالغني أنجم – رئيس مركز إندس للدراسات الباكستانية-

في واحدة من أكثر الصور المؤلمة والعبثية في مشهد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يُترك أطفال غزة ونساؤها ومرضاها في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية، بينما يتوارى من أشعلوا فتيل المواجهة خلف الجدران والبيانات الاستعراضية. إنّه ثمن فادح يدفعه الأبرياء مقابل “بطولات صوتية” وعمليات ساذجة لا توازن فيها بين الفعل والنتيجة.

ملثمون في الواجهة… ومشوهون لصورة القضية:
مشكلة العالم الإسلامي – وبالأخص القضية الفلسطينية – تكمن في تصدّر أفراد وجماعات غير مؤهلة للمشهد، أشخاص ملثمون لا يملكون شجاعة الظهور، يتصدرون المواجهة باسم “الجهاد”، بينما تظل القيادات الرسمية خارج اللعبة. هؤلاء – ممن يسمّون أنفسهم مجاهدين – هم أنفسهم من شوّهوا صورة المقاومة المشروعة، وأفقد القضية الفلسطينية تعاطفًا دوليًا متزايدًا.
كيف يمكن للمجتمع الدولي أن يدعم كيانات مسلحة غير رسمية، تعمل بمعزل عن الشرعية الوطنية، وتتبنّى عمليات غير محسوبة العواقب؟ وهل يُعقل أن تكسب حركة تحمل سلاحها خارج نطاق الدولة اعترافًا دوليًا أو دعمًا إنسانيًا؟

دولة داخل دولة… ودماء المدنيين ثمناً:

ما يجري في غزة مثالٌ حيّ على معضلة الانفصام بين الشرعية السياسية والفعل العسكري. حركة حماس وذراعها العسكري “القسّام” تديران القطاع بمفردهما، بينما تغيب السلطة الفلسطينية كليًا عن ساحة المواجهة.
والنتيجة؟ عمليات عسكرية بدائية من قبل القسّام – كإشعال النيران في جرافة إسرائيلية مهجورة – تقابلها ضربات جوية إسرائيلية مدمّرة، تسفر عن عشرات القتلى من المدنيين، من بينهم أطفال ونساء. كل ذلك يُقدَّم في الإعلام على أنه “نصر نوعي”، بينما الحقيقة أن النتائج الإنسانية كارثية.

المقاومة الرشيدة لا تعني الانتحار الجماعي:
القضية الفلسطينية لا تحتاج إلى تنظيمات جهادية متطفلة، بل إلى قيادة وطنية موحدة تقاتل باسم الدولة، وتحظى بشرعية دولية. لماذا لا تتحرك حركة فتح – السلطة الشرعية المعترف بها دوليًا – في هذه المعركة؟ ولماذا تبقى خارج المواجهة في حين تحترق غزة بنيران إسرائيل والقسّام معًا؟
المطلوب هو أن تتصدر السلطة الفلسطينية المشهد العسكري، إن كانت بالفعل تعتبر نفسها الممثل الحقيقي للشعب الفلسطيني. أما استمرار “حماس” في إدارة المعركة ببيانات استعراضية مقابل دماء الأبرياء، فهو شكل من أشكال العبث السياسي والإنساني.
هل هناك تنظيم يهودي مسلح يقاتل نيابة عن الليكود؟
في إسرائيل، لا نجد تنظيمات يهودية متطرفة تدّعي الجهاد نيابة عن الدولة. الدولة العبرية تقاتل باسم مؤسساتها: الجيش، الحكومة، الأجهزة الأمنية. ولهذا تكسب تضامن الغرب ودعمه السياسي والعسكري، رغم كل الجرائم التي ترتكبها بحق الفلسطينيين. أما الفلسطينيون، فهم يخسرون أوراقهم بأيديهم، حين يُدار الصراع من قبل “فصائل ساذجة” لا تنتمي إلى الشرعية الوطنية، ولا تزن الأمور بميزان العقل والمصلحة العامة. ولعل “فتح” تبرر غيابها عن المشهد بحجة أن غزة تحكمها حماس، والدفاع عنها ليس من مسؤولية محمودعباس. ولكن هذا المنطق الضيق لا يخدم القضية الفلسطينية، فحركة فتح هي السلطة الفلسطينية المعترف بها دوليا، وهي التي تمثل فلسطين وشعبها في المنظمات الأممية.
أسئلة خارج السرب:
إذا كان الدفاع عن غزة ليس من مسؤولية “فتح” فمن باب الأولى أن الدفاع عن فلسطين ليس من مسؤولية الدول الأخرى. فلماذا نشاهد ونسمع نداءات من قيادات فلسطينية تدعو العالم الإسلامي لنصرة الفلسطينيين؟ أليست حركة فتح جزء داخلي وتيار سياسي في فلسطين؟ أليس أعضاء حركة فتح مسلمون وينتمون إلى الإنسانية؟ ما الذي يمنع فتح من الدفاع عن غزة؟ لماذا لا نشاهد مواجهة مباشرة بين فتح وإسرائيل؟ هل حركة فتح تحكم فلسطين من أجل أخذ الرواتب من الدول الصديقة باسم الدعم الإنساني؟ مالذي يمنع فتح من استهداف جنود الاحتلال الذين يفتحون النار على المدنيين الأبرياء؟ لماذا لا تحاول فتح أخذ الثأر لياسر عرفات الذي قتلته الموساد حسب ادعاءات الحركة نفسها؟ لماذا لا تقوم فتح وحماس باغتيال مسؤول عسكري إسرائيلي بارز في حين اغتالت إسرائيل ابرز القيادات لحماس وفتح؟
الانقسام الداخلي الفلسطيني حقيقة لا يمكن إنكارها، ولكن في وقت المعركة والمواجهة؛ المطلوب من جميع الأطراف الفلسطينية ممارسة الوحدة الوطنية لدحر العدو، وليست المنافرة لتصفية الحسابات الصغيرة فيما بينهم.

إعلام المقاومة… خطاب للاستهلاك المحلي:
قناة الجزيرة، والتي تبدو في كثير من الأحيان كأنها الناطق غير الرسمي باسم القسّام، تنقل على مدار الساعة بيانات “الانتصار”: عبوة ناسفة أشعلت النار في دبابة مهجورة، أو طلقة نارية أصابت آلية إسرائيلية في جدار. وفي الوقت ذاته، تنقل الجزيرة تصريحات وزارة الصحة في غزة عن استشهاد 51 مدنيًا فلسطينيا في قصف إسرائيلي انتقامي في نفس اليوم. وأنا أريد أن اسأل القسام وحماس: من هو الأكثر تضررا نتيجة اعمالكم؛ الفلسطينيون الذين فقدوا ٥٠ مدنيا في آن واحد، أم الإسرائيلييون الذين خسروا البوابة الأمامية لسيارة جنودهم نتيجة العبوة الناسفة الفاشلة التي اشعلتم في آلية عسكرية صهيونية؟ هل هذه هي المعادلة؟ شظية في زجاج مدرعة مقابل دماء 50 فلسطينيًا؟ إن كان هذا هو “الردع”، فهو لا يستحق أن يُسمّى مقاومة. ومشكلتكم أنكم تحتفلون بهذا الرد السطحي وتقيمون مؤتمرا صحفيا على الملأ للإعلان أنكم استهدفتم آلية عسكرية صهيونية من نوع ميركافا من خلف جدار ونجحتم في عمل ثقوب في الزجاجة الأمامية لهذه الآلية العسكرية الصهيونية. ومع الأسف الشديد نجد مجموعة كبيرة من المسلمين السطحين يصفقون لكم على هذا العمل الجبار حسب زعمكم. ولكن بعد تقييم الحصيلة والخسائر وجدنا النتيجة:” شظايا في الزجاج الأمامي لسيارة عسكرية في الجانب الإسرائيلي، و٦١ شهيدا في الجانب الفلسطيني. إنها خسارة فادحة وفشل مدوي وهزيمة حقيقية للقسام وللشعب الفلسطيني. المطلوب منكم أن تقتلوا ١٥٠ جنديا إسرائيليا مقابل فلسطيني واحد. وإذا لم تكن لديكم جاهزية عسكرية على هذا المستوى، عليكم ترك المعركة والانسحاب عن المشهد السياسي.

المطلوب: عقل سياسي لا شعبوية قاتلة:
الرسالة الأهم:
ليست الشجاعة في إطلاق الصواريخ، بل في معرفة متى تطلق، وأين، ولماذا، وماذا بعد. وإن لم تكن لدى القسّام القدرة على إيقاع خسائر حقيقية في صفوف العدو، وإن كانت كل ضربة تُقابل بمجزرة، فإن الانسحاب من ساحة المعركة هو خيار شجاع وليس هروبًا.
ما نحتاجه في فلسطين اليوم ليس رمزية السلاح، بل شرعية القرار، وليس بيانات النصر، بل حصاد الفعل السياسي والميداني على مستوى القضية. آن الأوان أن يعود القرار للممثل الرسمي للشعب الفلسطيني، وأن يُفرض على الفصائل المسلحة التوقف عن العبث بمصير شعب بأكمله.
غزة ليست حقل تجارب… وغزة ليست ساحة استعراض للبطولات الزائفة. غزة بحاجة إلى عقل يُنقذ ما تبقى من أرواح قبل أن تُفقد القضية تمامًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى