المؤسس والرئيس التنفيذي للمركز: د. عبدالغني أنجم
أقلام باكستانيةالسياحةثقافةثقافة وتاريخدراساتصُور وتعليقفنونمقالاتمواقع تراثية

أشعار خلف الشاحنات: أدب الشوارع المتنقل في باكستان.

إعداد: وحدة الثقافة والفنون بمركز إندس للدراسات الباكستانية.

إسلام آباد/حيدر آباد-

في بلدٍ تجد فيه من يقرأ الكف ويستخرج “الطالع” من فم ببغاء على قارعة الطريق، بينما نجده نصب أمامه لافتة كتب عليها “بروفيسور” أو “الشيخ المعالج”، وفي أمةٍ يضع فيها بائع المياه لافتة “اختصاصي علاج بالأبر”، فهل يُستغرب إن عبّر سائقو الشاحنات عن أنفسهم بعبارات أدبية وشعرية يخطّونها خلف مركباتهم؟

الواقع أن هذا النوع من الكتابات المنتشرة على شاحنات النقل والحافلات والـ”توك توك” في باكستان، بات أدبًا شعبيًا متنقلاً، يعكس مشاعر الناس، سخريتهم، ألمهم، حِكمتهم، وحتى فلسفتهم الخاصة. إنها عبارات لا تُكتب عبثًا، بل تمثل شكلًا من أشكال التنفيس النفسي (الكاثارسيس)، ووسيلة تعبير لمن لا يملكون منبرًا.فهي تحاكي ضمير الأمة، وتُسافر بها من مدينة إلى أخرى، وتلامس أرواح المارة، حتى لو ضحكوا عليها أو استهزأوا بها، تظل رسائلها نافذة في أعماق الحياة اليومية.

على الطريق: رحلة في أدب المركبات:

كان لنا ذات يومٍ سفر على شارع “إندس السريع”، من مدينة شهِدادكوت إلى حيدر آباد، والغاية لم تكن الوصول فقط، بل التأمل في هذه الجُمَل المكتوبة على المركبات. تلك العبارات التي لا يُعرف من الذي يختارها، أهو السائق؟ أم صاحب المركبة؟ أم الخطّاط البارع؟ لا أحد يعلم. إنها تُكتب كما لو كانت تقليدًا أو طقسًا لا يحتاج إلى تفسير.فكم من كاتب أو مثقف توقف عندها ليتأمل؟ كم من برنامج تلفزيوني ناقشها؟ نادرًا، بل إن الذي يقرأها ويفكر بها هو الشعب نفسه… هو السائق الذي لا يحمل شهادة، لكنه يحمل قلبًا شاعرًا، ولسانًا ناقدًا، وعينًا حادة ترى المجتمع كما هو.عبارات تسخر… تعلّم… وتصرخ:في مدينة “قَمبر”، صادفنا أولًا مركبة شرطة كتب على الزجاج الخلفي: “في البحث عن المجرم”وبين هذه السطور رسالة لاذعة: هل الشرطة تبحث عن “مجرم” أم “متهم بريء”؟ أما سيارة شرطة أخرى، فقد كُتب عليها: “الملك”وكأنها تُجسد حقيقة حال بعض السلطات. وفعلا الشرطة في باكستان وخاصة في السند ملوك. لاحقًا، صادفنا “توك توك” كُتب عليها: “التعليم زينة المرأة، وأخي الأصغر هو نسيبها” – توقيع: غُل خان. عبارة تجمع الطرافة بالذكاء الاجتماعي، تقف على تخوم الشعر الشعبي. وأخرى أكثر فلسفية، تقول: “قد يتسخ جسدك، لكن إياك أن تسمح لقلبك بأن يتسخ”، كتبها سائق يبدو أنه لم يستحمم منذ أيام، وربما كان يوجّه الرسالة لنفسه أو للآخرين.

فن ساخر.. ورسائل فلسفية:

في بلدٍ يُرفع فيه لقب “عالم” على من لا علم له، يُصبح ما يكتبه سائق الشاحنة أصدق من الخطب الرسمية. كأن يقول: “من يملك العصا يملك البقرة!” في إشارة إلى أن من يملك المال والقوة سيملك كل شيء. ورسم الخطّاط ببراعة عصا أمام بقرة على جسم الشاحنة ليُجسد المثل بصريًا!وفي عبارة كُتبت باللغة السندية: ” الدنيا وصلت إلى القمر، ونحن ما زلنا نتملّق”، في عبارة أخرى لا تخلو من السخرية والعمق: “كثير من الحمير يعتقدون أنهم من نسل القردة، لكننا من نسل السائق!،وهنا مفارقة فكاهية صادمة تجعل القارئ يقف بين الضحك والتأمل.

للسفر طقوس… وللكلمات دلالات:

“لا تنظر إلى الجروح من البداية، فنحن في أول الطريق فقط”هكذا كتب سائق يبدو أنه يعرف أن الألم بداية الطريق وليس نهايته، ليختتمها بجملة فلسفية مؤثرة:”الكبار وُلدوا صغارًا مثلنا تمامًا”.وفي مدينة “نصير آباد”، رأينا:”في يد من أبحث عن دمي؟!عبارة تستحضر الألم الجمعي والتساؤل العدمي.ولم تخلُ العبارات من روح العصر والتعليق على الأحداث، فإحدى المركبات كُتب عليها: “بعد بائع الشاي، جاء دور سائق الركشة، تفضلوا اركبوا!”؛ في إشارة لقصّة الشاب الباكستاني بائع الشاي الذي أصبح نجمًا عالميًا.

وفي معرض العشق والغزل نلاحظ كثيرا خلف هذه المركبات أقوالا بسيطة تحمل معاني عميقة؛ خلال مرورنا من إسلام آباد صادفنا شاحنة يبدو سائقها جاء من بيشاور، ويبحث عن حب عشوائي؛ حيث قرأنا خلف المركبة عبارة بسيطة وعميقة: “قلب معروض للبيع… والثمن؟ مجرد ابتسامة”.

وفي الآونة الأخيرة أصبحت إسلام أباد تعرف بمدينة حاويات الشحن لأن السلطات الباكستانية نصبت حاويات شحن كبيرة في الشوارع لمنع أنصار عمران خان عن الاعتصامات والاحتجاجات الشعبية. فأصبحت إسلام آباد رمزا لمدينة محاطة بحاويات الشحن. وهذه الظاهرة دخلت في الأدب وبدأ الشعراء الباكستانييون يشبهون حبيباتهم بمدينة إسلام آباد في صعوبة الوصول وانغلاق الطرقات. قرأنا هذا الاقتباس أو التناص خلف شاحنة بهذه العبارة: “محبوبتي لا يُؤمَن جانبها، قد تُنهي علاقتنا في أي لحظة وتختفي دون إنذار…يبدو أنها — شيئًا فشيئًا — تُشبه إسلام آباد؛ لا ثبات، لا يقين، ولا طريق مفتوح دائمًا!.

وفي سياق السياسة الدولية وتوظيفها في الشعر قرأنا خلف توك توك شعرا بهذا المعنى: جاءت حبيبتي إلى قبري لتُشعل شمعة على روحي،لكنها أخذت الزيت الذي وُضع هناك مسبقًا… لتضعه في شعرها! كأنك مثل الأمريكان يأتون إلى بلداننا بحجة فرض السلام ويخرجون منها حاملين ثرواتنا وخيراتنا “في إشارة إلى عدم تأثرها بوفاته، وتفضيلها مصالحها الخاصة على المشاعر.

وسائق آخر وظف الدين للتعبير عن غرامه لحبيبته؛ وكتب خلف مركبته هذه العبارة:” في ديني، شربُ الخمرِ محرَّم… ولذلك، أرتشف اللبنَ في ذِكرى هواك”. على منحدرات شارع “مري” الباكساني، حيث تتمايل الشاحنات كأنها قصائد على عجلات،صادفنا بشتونيا كثّ اللحية طويل الشارب يقود شاحنته المحمّلة بالبضائع، لكنها لم تكن تحمل بضائع فقط، بل حملت أيضًا عبارة تنبض بالشغف والسياسة، خُطّت بخط غليظ على مؤخرة الشاحنة: “ليت الفوز بقلب الحبيبة يتمّ عبر الانتخابات… لأرشي لجنة الانتخابات، وأزوّر النتائج لأفوز بقلبك بلا منازع.”مزج السائق بين الحب والديمقراطية، وبين الحنين والتزوير، في تعبير ساخر عن الواقع، يحاكي فيه خيبة العشّاق ومكر الساسة، فغدا ظهر الشاحنة منبرًا شعبيًا… ومنعطف “مري” قصيدة تُقرأ على الطريق.

في الختام: أدب الناس البسطاء:

كل هذه العبارات، على بساطتها، تشكّل مرآة صادقة لروح الإنسان الباكستاني البسيط، وتجعل من الشاحنة والتوك توك منبرًا شعبيًا حرًا، لا تراقبه رقابة، ولا تقمعه سلطة.فمن يمنع الكتابة على الجدران، لا يمكنه منع الأدب الذي يسير على أربع عجلات، ويجوب المدن والقرى، ويلامس القلوب.إنها كتابات شعبية فيها من الشعر والفلسفة والجنون والحكمة ما يكفي لتأليف ديوان كامل… ديوان على عجلات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى